استغرق نزول القرآن مفرقًا ثلاثًا وعشرين سنة، كان منها ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشرُ سنوات في المدينة، وكان ينزل بحسب الوقائع والحوادث، فلم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم دفعةً واحدة، وذلك من حكمة الله سبحانه؛ لتسهيل حفظه وفهمه في بيئة غلبت عليها الأميَّة، وحتى يتدرج الناس في الأحكام والتربية وانتزاع العقائد الفاسدة والعادات الضارة، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة: آية 2]
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يختار من الصحابة من يكتب له القرآن فور نزوله، فيقول: (ادعوا فلانًا)، و يأمرهم أن يضعوا ما نزل منه في مكانه من سورة كذا في المكان الذي يُذكر فيه كذا وكذا، وكان يراجع كاتب الوحي بعد كتابته له، فإذا فرغ الكاتب من كتابته قال له: (اقرأه)، فيسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فإن كان فيه سقطٌ أقامه، فيخرج به الكاتب إلى الناس.
وعندما تولَّى الصِّديق الخلافةَ ارتدَّت بعضُ القبائل العربية الحديثة العهد بالإسلام، وفي السنة الحادية عشرة وقعت معركة اليمامة بين المرتدين بقيادة مسيلمة الكذاب، والمسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، واستشهد في المعركة عددٌ كبيرٌ من قراء المسلمين قُدِّر عددهم بسبعين قارئًا، ففزع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من هذا المصاب؛ لأنه خاف ذهاب القرآن الكريم بسبب كثرة القتل في القراء، فأسرع إلى الخليفة الصدِّيق وأشار عليه بجمع القرآن الكريم في مصحفٍ واحد.
بيد أن الصديق تردد ورفض الفكرة من الوهلة الأولى، وخاف أن يضع نفسه في منزلة من يزيد احتياطه للدين على احتياط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زال عمر يحاوره حتى شرح الله صدره، وكلف زيد بن ثابت الذي شهد العرضة الأخيرة، وكان شابًا ثقةً مأمونًا عاقلا، وكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وقال له: ((إنك رجلٌ شابٌ عاقلٌ لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه)).
وكان لا يكتب شيئًا حتى يشهد شاهدان فأكثر على كتابته وسماعه من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ مما يدلُّ على حرصه رضي الله عنه على الجمع بين الحفظ والكتابة زيادةً في التوثيق والاحتياط، ورتَّبه على وفق العرضة الأخيرة التي سمعها من الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد راعى زيدٌ في كتابة الصحف أن تكون مشتملةً على ما ثبتت قرآنيته بطريق التواتر، وما استقر في العرضة الأخيرة ولم تنسخ تلاوته بإجماع الصحابة، وحرص على ترتيب السور والآيات جميعا؛ لذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر؛ فإنه أول من جمع بين اللوحين)). وبقيت صحف القرآن المجموعة برعاية أبي بكر، ثم عمر، ثم انتقلت إلى حفصة أم المؤمنين رضي الله عنهم.
انتشر الإسلام في أرجاء الأرض، وأخذ الداخلون في الإسلام يتفقهون في دين الله، ويتعلمون القرآن الكريم في الأمصار الإسلامية، واتسع مع ذلك نسخ المصاحف وَفق ما أقرأ الصحابةُ الناس، وكلُّ مسلم يقرأ القرآن كما تلقَّاه في بلده، وكان المسلمون عند التقائهم في المناسبات المختلفة يسمع بعضهم قراءة بعض، فيلحظون اختلافًا في وجوه القراءة بينهم، وتمسك كلٌ بالقراءة التي بلغته من الصحابة، وصار كلُّ بلدٍ يرون ما هم عليه هو الصواب، فنشب الخلاف وقدم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه إلى المدينة عائدًا من فتوح أرمينية وأذربيجان، وكان من جملة من غزا معهم، وقد شاهد ما حصل بين أفراد الجيش من أهل الشام والعراق من اختلاف في قراءة القرآن، فدخل على الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال: ((يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى)). فقام عثمان بن عفان رضي الله عنه في أواخر سنة (24 هـ) وأوائل (25 هـ) بمشاورة إخوانه من الصحابة رضي الله عنهم، واتخذ الخطوات التالية:
- دعوة الصحابة إلى كتابة مصحفٍ إمامٍ يجتمع المسلمون في بلدانهم على القراءة فيه، فخاطبهم بقوله: ((اجتمعوا يا أصحاب محمد، واكتبوا للناس إمامًا)).
- اختيار أربعةٍ من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم لكتابة المصحف، وهم: زيد بن ثابت من الأنصار، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام من قريش، وكانوا على قدرٍ كبيرٍ من العلم والفصاحة؛ ومن تأمل سيرتهم، وما تحلَّوا به من قدراتٍ علميةٍ وأخلاقٍ عاليةٍ أدرك أنَّ اختيارهم صاحَبَتْهُ عناية الله الذي تعهد بحفظ كتابه، ثم الحرص الشديد من الخليفة الراشد عثمان وإخوانه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
- تحديد منهجٍ دقيق للكتابة.
وكان يتعاهدهم ويتابع سير عملهم، وكان من حرصهم واحتياطهم رضي الله عنهم أنهم كانوا يهتمون بملاحظة العَرضة الأخيرة وهي: عرض الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم على جبريل في عام وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مرتين. وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه قد شهد هذه العرضة، وهذا ما أهَّلهُ ليختاره أبو بكر وعمر في الجمع الأول للقرآن، وعثمان في الجمع الثاني.
وكان هذا الجمعُ مرتبُ الآيات والسور على الوجه المعروف، الذي عليه المصاحف الآن، وعلى اللفظ الذي استقر عليه في العرضة الأخيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا جُمعَ المصحف في عهد الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه في غاية من الدقة والضبط، وبقي نصه محفوظًا من التحريف، ولم يتطرق إليه شكٌ من الزيادة فيه أو النقص منه. وأرسل عثمان رضي الله عنه مصحفًا إلى كل مصر- من الأمصار الإسلامية آنذاك.